كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هذه السورة مكية، ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه لما ذكر عن الكفار أنهم كانوا يقولون: {لو أن عندنا ذكرًا من الأولين} لأخلصوا العبادة لله.
وأخبر أنهم أتاهم الذكر فكفروا به.
بدأ في هذه السورة بالقسم بالقرآن، لأنه الذكر الذي جاءهم، وأخبر عنهم أنهم كافرون، وأنهم في تعزز ومشاقة للرسول الذي جاء به؛ ثم ذكر من أهلك من القرون التي شاقت الرسل ليتعظوا.
وروي أنه لما مرض أبو طالب، جاءت قريش رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه، وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ فقال: «يا عم، إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب، وتؤدّي إليهم الجزية بها العجم. قال: وما الكلمة؟ قال: كلمة واحدة، قال: وما هي؟ قال: لا إله إلا الله» قال فقاموا وقالوا: {أجعل الآلهة إلهًا واحدًا} قال: فنزل فيهم القرآن: {ص والقرآن ذي الذكر} حتى بلغ، {إن هذا إلا اختلاق}.
قرأ الجمهور: {ص} بسكون الدال وقرأ أبي، والحسن، وابن أبي إسحاق، وأبو السمال، وابن أبي عبلة، ونصر بن عاصم: {ص} بكسر الدال، والظاهر أنه كسر لالتقاء الساكنين وهو حرف من حروف المعجم نحو: ق ونون.
وقال الحسن: هو أمر من صادى، أي عارض، ومنه الصدى، وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الصلبة الخالية من الأجسام، أي عارض بعملك القرآن.
وعنه أيضًا: صاديت: حادثت، أي حادث، وهو قريب من القول الأول.
وقرأ عيسى، ومحبوب عن أبي عمرو، وفرقة: (صاد) بفتح الدال، وكذا قرأ: (قاف) و(نون) بفتح الفاء والنون، فقيل: الفتح لالتقاء الساكنين طلبًا للتخفيف؛ وقيل: انتصب على أنه مقسم به، حذف منه حرف القسم نحو قوله: ألله لأفعلن، وهو اسم للسورة، وامتنع من الصرف للعلمية والتأنيث، وقد صرفها من قرأ صاد بالجر والتنوين على تأويل الكتاب والتنزيل، وهو ابن أبي إسحاق في رواية.
وقرأ الحسن أيضًا: صاد، بضم الدال، فإن كان اسمًا للسورة، فخبر مبتدأ محذوف، أي هذه ص، وهي قراءة ابن السميفع وهارون الأعور؛ وقرأ (قاف) و(نون) بضم الفاء والنون.
وقيل: هو حرف دال على معنى من فعل أو من اسم، فقال الضحاك: معناه صدق الله.
وقال محمد بن كعب: مفتاح أسماء الله محمد صادق الوعد صانع المصنوعات.
وقيل: معناه صدق محمد.
قال ابن عباس، وابن جبير، والسدّي: ذي الذكر: ذي الشرف الباقي المخلد.
وقال قتادة: ذي التذكرة، للناس والهداية لهم.
وقيل: ذي الذكر، للأمم والقصص والغيوب والشرائع وجواب القسم، قيل: مذكور، فقال الكوفيون والزجاج: هو قوله: {إن ذلك لحق تخاصم أهل النار} وقال الفراء: لا نجده مستقيمًا في العربية لتأخره جدًّا عن قوله: {والقرآن}.
وقال الأخفش: هو {إن كل إلا كذّب الرسل} وقال قوم: {كم أهلكنا} وحذف اللام أي لكم، لما طال الكلام؛ كما حذفت في {والشمس} ثم قال: {قد أفلح} حكاه الفراء وثعلب، وهذه الأقوال يجب اطراحها.
وقيل: هو صاد، إذ معناه: صدق محمد وصدق الله.
وكون صاد جواب القسم، قاله الفراء وثعلب، وهذا مبني على تقدم جواب القسم، واعتقاد أن الصاد يدل على ما ذكروه.
وقيل: الجواب محذوف، فقدره الحوفي: لقد جاءكم الحق ونحوه، والزمخشري: إنه لمعجز، وابن عطية: ما الأمر كما تزعمون، ونحو هذا من التقدير.
ونقل أن قتادة والطبري قالا: هو محذوف قبل {بل} قال: وهو الصحيح، وقدره ما ذكرنا عنه، وينبغي أن يقدر ما أثبت هنا جوابًا للقرآن حين أقسم به، وذلك في قوله تعالى: {يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين} ويقوي هذا التقدير ذكر النذارة هنا في قوله: {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم} وقال هناك: {لتنذر قومًا} فالرسالة تتضمن النذارة والبشارة، وبل للانتقال من هذا القسم والمقسم عليه إلى حالة تعزز الكفار ومشاقهم في قبول رسالتك وامتثال ما جئت به، واعتراف بالحق.
وقرأ حماد بن الزبرقان، وسورة عن الكسائي، وميمون عن أبي جعفر، والجحدري من طريق العقيلي: في غرة، بالغين المعجمة والراء، أي في غفلة ومشاقة.
{قبلهم} أي قبل هؤلاء ذوي المنعة الشديدة والشقاق، وهذا وعيد لهم.
{فنادوا} أي استغاثوا ونادوا بالتوبة، قاله الحسن؛ أو رفعوا أصواتهم، يقال: فلان أندى صوتًا: أي أرفع، وذلك بعد معاينة العذاب، فلم يك وقت نفع.
وقرأ الجمهور: {ولات حين} بفتح التاء ونصب النون، فعلى قول سيبويه، عملت عمل ليس، واسمها محذوف تقديره: ولات الحين حين فوات ولا فرار.
وعلى قول الأخفش: يكون حين اسم لات، عملت عمل إن نصبت الاسم ورفعت الخبر، والخبر مخذوف تقديره: ولات أرى حين مناص.
وقرأ أبو السمال: ولات حين، بضم التاء ورفع النون؛ فعلى قول سيبويه: حين مناص اسم لات، والخبر محذوف؛ وعلى قول الأخفش: مبتدأ، والخبر محذوف.
وقرأ عيسى بن عمر: ولات حين، بكسر التاء وجر النون، خبر بعد لات، وتخريجه مشكل، وقد تمحل الزمخشري في تخريج الخبر في قوله:
طلبوا صلحنا ولات حين أوان ** فأجبنا أن لات حين بقاء

قال: شبه أوان بإذ في قوله: وأنت إذ صحيح في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض، لأن الأصل: ولات أوان صلح.
فإن قلت: فما تقول في حين مناص، والمضاف إليه قائم؟ قلت: نزل قطع المضاف والمضاف إليه، وجعل تنوينه عوضًا من الضمير المحذوف، ثم بنى الحين لكونه مضافًا إلى غير متمكن. انتهى.
هذا التمحل، والذي ظهر لي في تخريج هذه القراءة الشاذة، والبيت النادر في جر ما بعد لات: أن الجر هو على إضمار من، كأنه قال: لات من حين مناص، ولات من أوان صلح، كما جروا بها في قولهم: على كم جذع بيتك؟ أي من جذع في أصح القولين، وكما قالوا: لا رجل جزاه الله خيرًا، يريدون: لا من رجل، ويكون موضع من حين مناص رفعًا على أنه اسم لات بمعنى ليس، كما تقول: ليس من رجل قائمًا، والخبر محذوف، وهذا على قول سيبويه، أو على أنه مبتدأ أو الخبر محذوف، على قول الأخفش.
وقال بعضهم: ومن العرب من يخفض بلات، وأنشد الفراء:
ولتندمن ولات ساعة مندم

وخرج الأخفش ولات أوان على إضمار حين، أي ولات حين أوان، حذف حين وأبقى أوان على جره.
وقال أبو إسحاق: ولات أواننا، فحذف المضاف إليه، فوجب أن لا يعرب، وكسره لالتقاء الساكنين؛ وهذا هو الوجه الذي قرره الزمخشري، أخذه من أبي إسحاق الزجاج، وأنشده المبرد: ولات أوان بالرفع.
وعن عيسى: ولات حين، بالرفع، مناص: بالفتح.
وقال صاحب اللوامح: فإن صح ذلك، فلعله بنى حين على الضم، فيكون في الكلام تقديم وتأخير، وأجراه مجرى قبل وبعد في الغاية، وبنى مناص على الفتح مع لات، على تقدير: لات مناص حين، لكن لا إنما تعمل في النكرات في اتصالها بهن دون أن يفصل بينهما ظرف أو غيره، وقد يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه. انتهى.
وقرأ عيسى أيضًا: ولات بكسر التاء، وحين بنصب النون، وتقدم تخريج نصب حين.
ولات روي فيها فتح التاء وضمها وكسرها والوقف عليها بالتاء، قول سيبويه والفراء وابن كيسان والزجاج، ووقف الكسائي والمبرد بالهاء، وقوم على لا، وزعموا أن التاء زيدت في حين؛ واختاره أبو عبيدة وذكر أن رآه في الإمام مخلوطًا تاؤه بحين، وكيف يصنع بقوله: ولات ساعة مندم، ولات أوان.
وقال الكلبي: كانوا إذا قاتلوا فاضطروا، قال بعضهم لبعض: مناص، أي عليكم بالفرار، فلما أتاهم العذاب قالوا: مناص، فقال الله: {ولات حين مناص}.
قال القشيري: فعلى هذا يكون التقدير: فنادوا مناص، فحذف لدلالة ما بعده عليه، أي ليس الوقت وقت ندائكم به، وفيه نوع تحكم، إذ كل من هلك من القرون يقول مناص عند الاضطرار. انتهى.
وقال الجرجاني: أي فنادوا حين لا مناص، أي ساعة لا منجا ولا فوت.
فلما قدم لا وأخر حين اقتضى ذلك الواو، كما تقتضي الحال إذا جعل مبتدأ وخبرًا مثل: جاء زيد راكبًا، ثم تقول: جاء زيد وهو راكب، فحين ظرف لقوله: {فنادوا}. انتهى.
وكون أصل هذه الجملة: فنادوا حين لا مناص، وأن حين ظرف لقوله: {فنادوا} دعوى أعجمية مخالفة لنظم القرآن، والمعنى على نظمه في غاية الوضوح، والجملة في موضع الحال، فنادوا وهم لات حين مناص، أي لهم.
ولما أخبر تعالى عن الكفار أنهم في عزة وشقاق، أردف بما صدر عنهم من كلماتهم الفاسدة، من نسبتهم إليه السحر والكذب.
ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {وقال الكافرون} أي: وقالوا تنبيهًا على الصفة التي أوجبت لهم العجب، حتى نسبوا من جاء بالهدى والتوحيد إلى السحر والكذب.
{أجعل الآلهة إلهًا واحدًا} قالوا: كيف يكون إله واحد يرزق الجميع وينظر في كل أمورهم؟ وجعل: بمعنى صير في القول والدعوى والزعم، وذكر عجبهم مما لا يعجب منه.
والضمير في {وعجبوا} لهم، أي استغربوا مجيء رسول من أنفسهم.
وقرأ الجمهور: {عجاب} وهو بناء مبالغة، كرجل طوال وسراع في طويل وسريع.
وقرأ علي، والسلمي، وعيسى، وابن مقسم: بشم الجيم، وقالوا: رجل كرّام وطعام طياب، وهو أبلغ من فعال المخفف.
وقال مقاتل: عجاب لغة أزد شنوءة.
والذين قالوا: {أجعل الآلهة إلهًا واحدًا} قال ابن عباس: صناديد قريش، وهم ستة وعشرون.
{وانطلق الملأ منهم} الظاهر انطلاقهم عن مجلس أبي طالب، حين اجتمعوا هم والرسول عنده وشكوه على ما تقدّم في سبب النزول؛ ويكون ثم محذوف تقديره: يتحاورون.
{أن امشوا} وتكون أن مفسرة لذلك المحذوف، وامشوا أمر بالمشي، وهو نقل الأقدام عن ذلك المجلس.
وقال الزمخشري: وأن بمعنى أي، لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لابد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم، فكان انطلاقهم مضمنًا معنى القول والأمر بالمشي، أي بعضهم أمر بعضًا.
وقيل: أمر الأشراف أتباعهم وأعوانهم.
ويجوز أن تكون أن مصدرية، أي وانطلقوا بقولهم امشوا، وقيل: الانطلاق هنا الاندفاع في القول والكلام، وأن مفسرة على هذا، والأمر بالمشي لا يراد به نقل الخطا، إنما معناه: سيروا على طريقتكم ودوموا على سيرتكم.
وقيل: {امشوا} دعاء بكسب الماشية، قيل: وهو ضعيف، لأنه كان يلزم أن تكون الألف مقطوعة، لأنه إنما يقال: أمشي الرجل إذا صار صاحب ماشية؛ وأيضًا فهذا المعنى غير متمكن في الآية.
وقال الزمخشري: ويجوز أنهم قالوا: امشوا، أي أكثروا واجتمعوا، من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها؛ ومنه الماشية للتفاؤل. انتهى.
وأمروا بالصبر على الآلهة، أي على عبادتها والتمسك بها.
والإشارة بقوله: {إن هذا} أي ظهور محمد صلّى اللّه عليه وسلم، وعلوه بالنبوة، {لشيء يراد} أي يراد منا الانقياد إليه، أو يريده الله ويحكم بإمضائه، فليس فيه إلا الصبر، أو أن هذا الأمر شيء من نوائب الدهر مراد منا، فلا انفكاك عنه، وأن دينكم لشيء يراد، أي يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه، احتمالات أربعة.
وقال القفال: هذه كلمة تذكر للتهديد والتخويف، المعنى: أنه ليس غرضه من هذا القول تقرير للدين، وإنما غرضه أن يستولي علينا، فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد.
{ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة} قال ابن عباس، ومجاهد، ومحمد بن كعب، ومقاتل: ملة النصارى، لأن فيها التثليث، ولا توحد.
وقال مجاهد، وقتادة: ملة العرب: قريش ونجدتها.
وقال الفراء، والزجاج: ملة اليهود والنصرانية، أشركت اليهود بعزير، وثلث النصارى.
وقيل: في الملة الآخرة التي كنا نسمع أنها تكون في آخر الزمان، وذلك أنه قبل المبعث، كان الناس يستشعرون خروج نبي وحدوث ملة ودين.
ويدل على صحة هذا ما روي من أقوال الأحبار أولي الصوامع، وما روي عن الكهان شق وسطيح وغيرهما، وما كانت بنو إسرائيل تعتقد من أنه يكون منهم.
وقيل: في الملة الآخرة، أي لم نسمع من أهل الكتاب ولا الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد الله.
{إن هذا إلا اختلاق} أي افتعال وكذب.
{أأنزل عليه الذكر من بيننا} أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم وينزل عليه الكتاب من بينهم، وهذا الإنكار هو ناشىء عن حسد عظيم انطوت عليه صدورهم فنطقت به ألسنتهم.
{بل هم في شك من ذكري} أي من القرآن الذي أنزلت على رسولي يرتابون فيه، والإخبار بأنهم في شك يقتضي كذبهم في قولهم: {إن هذا إلا اختلاق}.
{بل لما يذوقوا عذاب} أي بعد، فإذا ذاقوه عرفوا أن ما جاء به حق وزال عنهم الشك.
{أم عندهم خزائن رحمة ربك} أي ليسوا متصرفين في خزائن الرحمة، فيعطون ما شاؤوا، ويمنعون من شاؤوا ما شاؤوا، ويصطفون للرسالة من أرادوا، وإنما يملكها ويتصرف فيها {العزيز} الذي لا يغالب، {الوهاب} ما شاء لمن شاء.
لما استفهم استفهام إنكار في قوله: {أم عندهم خزائن رحمة ربك} وكان ذلك دليلًا على انتفاء تصرفهم في خزائن رحمة ربك، أتى بالإنكار والتوبيخ بانتفاء ما هو أعم فقال: {أم لهم ملك السموات والأرض} أي ليس لهم شيء من ذلك.